الاخبار

عبد الحق المريني.. رحيل رجل الدولة الذي وثّق ذاكرة المغرب وواجه النسيان بالقلم

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/610b

غادرنا الثلاثاء 3 يونيو 2025، في صمت يليق بالكبار، المؤرخ الملكي والكاتب المغربي البارز عبد الحق المريني، عن عمر يناهز 91 عامًا، بعد مسيرة فكرية وإدارية شكلت مرآة صادقة لذاكرة المغرب، وعكست ملامح أمة ظلت تبحث دائمًا عن ذاتها في مرآة التاريخ.

ولد المريني سنة 1934 في الرباط، وكان ابنًا بارًا لعاصمة أنجبت كبار المثقفين ورجالات الدولة. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم انطلق في مسار أكاديمي متفرد، مزج فيه بين الدراسات الإسلامية والأدب والتاريخ السياسي. نال دبلوم الدراسات العليا من جامعة ستراسبورغ الفرنسية عام 1966، ثم توج مسيرته العلمية بدكتوراه الدولة في الآداب من جامعة محمد بن عبد الله بفاس سنة 1989.

لكن عبد الحق المريني لم يكن مجرد مؤرخ يكتب من برج عاجي. كان شاهدًا ومشاركًا في صناعة الذاكرة الرسمية للمغرب. شغل مناصب رفيعة أبرزها مدير التشريفات الملكية والأوسمة، ثم الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، إضافة إلى منصبه الأبرز كمؤرخ المملكة منذ 2012. ومن خلال هذه الأدوار، لعب دورًا حساسًا في حفظ الرواية الرسمية للدولة، وتدوين ما لا يجب أن يُنسى.

ترك المريني رصيدًا غنيًا من المؤلفات، لعل أبرزها: الجيش المغربي عبر التاريخ، شعر الجهاد في الأدب المغربي، مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث، محمد الخامس.. دراسات وشهادات، والحسن الثاني الإنسان والملك. لم تكن مؤلفاته مجرد توثيق أكاديمي، بل كانت شهادات فكرية تلتقي فيها الحماسة الوطنية بالنظرة النقدية النادرة.

لكن الأهم من كل هذا أن عبد الحق المريني، بعيدا عن هدوئه الظاهري، كان يحمل قلقًا حضاريًا كبيرًا. لقد ظل منشغلاً بسؤال الهوية، ليس فقط كتصور سياسي بل كنسيج اجتماعي وثقافي تشكّل عبر قرون. وهنا تبرز إحدى نقاط قوته: لم تكن كتاباته عن المغرب الملوكي فقط، بل عن المغرب الإنسان، المتعدد، الذي لا يُختزل في سلطة أو لحظة زمنية.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى إسهامات المريني من زاوية جديدة، تتعلق بالمرأة. فحين كتب عن الشعر الجهادي، وعن التوثيق الأدبي والعسكري، لم يكن معزولًا عن تيمة المرأة في التاريخ. صحيح أن تناوله لم يكن مباشراً أو نسويًا بالمفهوم الحديث، لكنه أدرك — ككل مؤرخ ذكي — أن التاريخ لا يُكتب برجال السلطة فقط، بل تُشيده أيضًا النساء في الظل: الأمهات، الأميرات، العالمات، المربيات، والبطلات غير المرئيات.

لقد عايش المريني تحولات المغرب من زمن الحماية إلى الاستقلال، ومن الملكية التقليدية إلى مرحلة التحديث والمؤسسات. ومن هذا المنظور، فكل تأمل في مساره هو أيضًا تأمل في وضع المرأة المغربية، من كونها موضوعًا في تاريخ الملوك والسلاطين، إلى شريكة فعلية في بناء الدولة الحديثة. وفي نصوصه، كانت هناك إشارات واضحة إلى هذا الوعي، وإن لم يكن ذلك عبر المنهجية النسوية المعاصرة، لكنه كان واعيًا بحضور المرأة الرمزي والثقافي.

اليوم، برحيل عبد الحق المريني، لا تفقد المملكة مؤرخها الرسمي فقط، بل تفقد واحدًا من آخر حراس الذاكرة الهادئة، الذين قاوموا النسيان بجمْع الوثيقة وسرد الحدث وتدوين الموقف. وربما كان ذلك أبلغ أنواع المقاومة، في زمن لا يتوقف عن ابتلاع تاريخه.

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/610b

إيمان بوحزامة

About Author

اترك تعليقاً

اشترك معنا

    ننطلق من إيمان عميق بأن البيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي امتداد لصحتنا النفسية والجسدية،

    جريدة إلكترونية مغربية شاملة، متخصصة في قضايا الفلاحة، التنمية القروية، البيئة… وكل ما يربط الإنسان بالأرض والطبيعة من حوله.

    Gmedianews @2023. All Rights Reserved.