بلال الهلاوي
لقد شهد العالَم في العصر الحديث تقلُّبات جمّة في موازين السياسة الكونية، فبعد أن بسطت الدول الإمبريالية الأوروبية سطوتها على جلّ أرجاء إفريقيا وآسيا والأمريكتين، انطلقت في حملات استعمارية لم تكن تهدف إلا إلى الهيمنة على خيرات البلاد المستعمَرة، ومحو هوية شعوبها واستئصال جذورها، ولقد كانت أعمدة هذا الطغيان ممثّلة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، ثم تبعتها لاحقا دول كألمانيا والاتحاد السوفييتي المتفكك.
وقد شملت هذه الحملات الجائرة الأقطار العربية، فكان نصيبُ شمال إفريقيا من نصيب فرنسا وإسبانيا، في حين ارتكزت بريطانيا في مشرق العرب، ومن جملة البلدان التي طالها الاستعمار البريطاني، كانت فلسطين، تلك الأرض الطاهرة التي طُمِست معالمها بفعل وعدٍ مشؤوم، عُرف في صفحات التاريخ بوعد بلفور سنة 1917م، بعد تفكك الامبراطورية العثمانية وخروجها مهزومة من أتون الحرب العالمية الأولى.
ذلك الوعدُ لم يكن مجرّد بيانٍ عابر يُنسى مع تقادم الأيام، بل كان سياسة ممنهجة، مدعومة بمال وفير وتآمر دوليّ محكم، هدفها إحلالُ كيان دخيل محلّ شعب عريق، فبدأت الخطة بشراء الأراضي، ثم اغتصاب الممتلكات عنوة، وقد حُرِمَ الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم وأرضهم، بل طُرِدوا منها تحت وقع السلاح، وما زالت قضايا النهب قائمة في ردهات المحاكم.
وفي سنة 1948م، حُفِرت في وجدان العرب ذكرى النكبة، يوم أُعلنت إقامة ما يُسمّى بدولة المزعومة فوق الأرض الفلسطينية، فاشتعلت الحرب، وهُزِم العربُ فيها هزيمة نكراء، لا بسبب قِلّة في العدد أو العتاد، بل بسبب الغرور والتخاذل والخيانة التي نخرت الصفوف من الداخل.
وتوالت بعدها المواجهات، أبرزها حرب أكتوبر 1973م، حيث شاركت فيها مصر وسوريا والعراق والمغرب ودول عربية أخرى، إلا أن التراجع السوري المفاجئ بأمر من حافظ الأسد، ترك الكتيبة المغربية تُقصف بلا غطاء، وكاد يُفنيها لولا شهامة العراقيين الذين هرعوا لنجدة إخوانهم. منذ تلك اللحظة، دبّ الشك بين العرب، وأدركوا أن العدوّ الأوحد لا يَخشى شيئا كما يخشى الخيانة.
ورغم المحاولات المتكررة لتحرير فلسطين، بقيت المساعي رهينة التشتت، وضاعت الوحدة العربية في دهاليز المصالح الضيقة، فباتت الهوية القومية هشّة، والقرار مُمزّقا، واللسان العربي ثقيلا عن نصرة أهله.
أما اليوم، فقد أضحى الفلسطينيون، ولا سيما أهل غزة العزّة، يعيشون في ظروف إنسانية مهولة، بين أنقاض البيوت ومقابر الأحياء، وحصار مميت، وجوعٍ يفتك بالصغار والكبار على السواء. والعدوّ الغاشم، في نذالته المعهودة، يتقمّص دور الضحية حينا، ويزهو بقوّته حينا آخر، مدعوما بأمريكا وحلفائها من الإمبرياليين الغربيين.
فأيُّ منطقٍ ذاك الذي يُحرِّم الحرب على أوكرانيا، ويُجيز الإبادة في فلسطين؟
وأيُّ عدل ذلك الذي يُعاقِب روسيا، ويُكافئ الدولة المصطنعة؟
وأين هي المنظمات الدولية التي تتغنّى بحقوق الإنسان، بينما تسكت عن أطفال يقتلون، ونساء تُجوَّع، وشعبٍ يُستأصَل؟
لا جواب، إلا الصمت المريب والتواطؤ المفضوح.
أما التضامن مع الشعب الفلسطيني، فليس رفاها فكريّا، بل فرض أخلاقي وإنساني، قبل أن يكون قانونيّا أو دينيّا، ومن يسخر من أثر الكلمة أو الصورة أو الموقف، فليعلم أن الغربيين أنفسهم احتشدوا لأوكرانيا، بالكلمة والراية والصورة والدعم اللامشروط، فما بالنا نحن نتقاعس عن أهل الدين والدم واللغة؟
نعم، لستَ بحاجة أن تحمل بندقية لتُعلن تضامنك، بل يمكنك أن تكتب، ترسم، توثّق، تنشر… من موضعك، من قلمك، من قلبك، التضامن أشكال شتى، كلها تنبع من نفس حُرّة، وشعور صادق.
وقد قال المصطفى صلى الله عليه و سلم: “من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.”
فأيّ منكرٍ أفدح من حصار شعب، وتجويع أمّة، وقصف مآذن ومدارس ومستشفيات؟
وأيّ مسلم هذا الذي يبرر هذا البغي، أو يلتزم الحياد أمام إبادة جماعية؟
إنّ المنظمات الدولية لم تعد تُخفي عجزها أو نفاقها، والأمم المتحدة لا تفعل سوى إصدار بيانات شاحبة، أما قوانينها الدولية فحبر على ورق، لا تسري إلا على المستضعفين من الدول، وأما الطغاة، فلهم الحصانة وحق النقض.
ختاما، ليس الجُبن في أن تصمت، بل في أن تتخاذل عن كلمة حقّ، أو تُصغي للباطل وتُبرّر،
وليس الشرف في الشعارات، بل في المواقف، حين تسقط الأقنعة وتَظهَر الحقائق،
فليُراجع كلٌّ منا ضميره، ولنتذكّر أن الأمة التي لا تنصر مظلومَها، لا تستحق شرف البقاء.