إيمان بوحزامة
في زمن لم تعد فيه القيم تُلقّن في المدارس، ولا المعنى يُصاغ في الكتب، يبدو أن الدولة، من حيث تدري أو لا تدري، باتت تصوغ قدوة الأجيال في استوديوهات البث المباشر، وعلى إيقاع “الترند” ومزاج الخوارزميات.
حين تمنح وزارة الثقافة ، التي يُفترض أنها مؤتمنة على الذوق والمعنى والرسالة ، جائزة مؤثرة لشخص لا يحمل من التأثير سوى صخبه، ولا من الحضور سوى ما تكفّلت به المنصات، فنحن لا نحتفي بفرد، بل نُعلن رسميًّا عن النموذج الذي نريد أن يقتدي به أبناء هذا الوطن.
لكن، هل المسألة محصورة في لقب؟ لا. فالاختيار لم يكن استثناءً، بل امتداداً لمنظومة كاملة من “التكريمات” الإعلامية المتكررة التي تستدعي نفس الوجوه، وتقدّم نفس النماذج، وتُعيد تدوير نفس النوع من الضيوف، فقط لأنهم يعرفون كيف “يصنعون الجدل”، أو لأن خوارزمية مواقع التواصل الاجتماعي قرّرت أن تمنحهم ضوءًا مؤقتاً.
ما نعيشه اليوم ليس أزمة مؤسسة، بل أزمة بوصلــة: من يُوجّه اختيارات المنابر؟ من يضع المعايير؟ ومن يقرر أن يكون هذا مؤثراً، وذاك لا يستحق حتى دقيقة بث؟
نحن نعيش لحظة فارقة! حيث لا مكان للقيمة، بل للمحتوى القابل للاستهلاك السريع. لا مكان للثقافة، بل للفرجة. لا مكان للقدوة الهادئة، بل للانفجار الموقوت الذي يثير ويختفي، ويُصَفّق له دون أن يُسأل: ما الذي قدمته غير الصدى؟
هل تساءلت الدولة، ومؤسساتها، عن الرسالة التي تمررها حين تُكرّم شخصًا لأن “عدد مشاهداته” خيالي؟ هل تساءل المسؤولون عن نوع القيم التي يُمكن أن يزرعها هذا التتويج في عقول شباب يبحثون عن معنى؟ عن طريق؟ عن حلم يُبنى بالكدّ لا بالصراخ؟
ما يحصل اليوم ليس انزلاقًا، بل اختيار واعٍ لمعادلة جديدة: الشهرة بدل القيمة، الصخب بدل الإبداع، الحضور الرقمي بدل الحضور الحقيقي في حياة الناس.
وفي ظل هذا المشهد، لا عجب أن يشعر المثقفون بالعزلة، وأن يتحدث أصحاب العمق إلى أنفسهم، بينما تُوجّه الأضواء نحو من يرقص في الفراغ.
لا أحد يُنكر أن الزمن تغيّر، وأن المنصات باتت تصنع رموزها… لكن مسؤولية الدولة، حين تمنح الجوائز وتدير الإعلام وتضع السياسات، ليست أن تُطابق السوق، بل أن تُقاومه حين ينزلق، أن تُصلح الذوق، لا أن تكرّس الرداءة.
لأن المسألة، في نهاية المطاف، ليست فقط من نُكرّم… بل من نُقدّمه كقدوة، ونقول من خلاله لأبنائنا: “هكذا تكون النجاحات”.
