الاخبار كلمة الرأي

عندما لا يجد الجيل من يسمعه، يتحدث الراب

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/v4ko

إيمان بوحزامة

ما حدث في حفل “إل غراند طوطو” في مهرجان موازين لم يكن مجرد عرض فني أو لحظة ترفيه عابرة. آلاف من الشباب تجمّعوا من مختلف المدن، بعضهم قطع مئات الكيلومترات فقط ليكون هناك، يردد الكلمات، يرفع صوته، ويشعر أن شخصًا ما يتحدث عنه، يشبهه. فهل كان هذا الحضور الكبير مجرد إعجاب بلون موسيقي؟ أم أن هناك ما هو أعمق من ذلك بكثير؟ ما حدث هو انعكاس لحالة اجتماعية صامتة، كشفها صوت صاخب، ومشهد أربك كثيرين ليس لأنهم لا يفهمونه، بل لأنهم لم يعودوا جزءًا منه.

الراب ظاهرة فنية عالمية، تمتد من الضواحي الأمريكية إلى أحياء باريس ولندن، وصولًا إلى مدن المغرب. لكنه في السياق المغربي يتخذ شكلاً خاصًا، بسبب غياب قنوات رسمية حقيقية لاحتضانه. فلا التلفزة الوطنية ولا الإذاعات الكبرى تفتح له المجال، مما يجعل أي فرصة تمنح له، كحفل موازين، تبدو كأنها تضخم حضوره أكثر من حجمه الواقعي. لكن في هذا التضخيم نفسه، تكمن المفارقة؛ فكلما تم تجاهل هذا الفن، كلما زاد حضوره في الواقع الموازي، واقع الشارع، والسوشيال ميديا، و”الولد اللي ساكت بزاف”.

الأمر لا يتعلق فقط بطوطو، بل بما يمثله. طوطو كان، في تلك اللحظة، صدى لجيل يشعر أنه لم يجد من يتحدث بلغته. ليس في الأحزاب السياسية، ولا في الجمعيات المدنية، ولا حتى في المساجد. كل تلك المؤسسات التي لطالما اعتبرت نفسها مؤثرة، فشلت في مخاطبة وعي جديد، لغة جديدة، وطريقة أخرى في رؤية العالم. وما فعله الراب، ببساطة، هو أنه دخل من الباب الذي تركوه مفتوحًا… أو تجاهلوه. هو لم يسرق الجمهور من أحد، بل وجده وحيدًا، تائهًا، يبحث عن مساحة تُشبهه.

الكثير ممن انتقدوا الحفل لم يكونوا في الواقع، غاضبين من مضمون الكلمات بقدر ما كانوا مرتبكين من الصورة كلها. من تحوّل التأثير، من تراجع سلطتهم الرمزية، من إدراكهم أن الجيل الجديد لم يعد ينظر إليهم كمراجع نهائية للذوق أو القيم أو حتى المعنى. الانتقاد، أحيانًا، لم يكن نابعًا من غيرة على القيم، بل من خوف على فقدان الدور. وهذا الاعتراف، وإن لم يُقال علنًا، يكشف كيف يتحوّل الخوف من “طوطو” إلى خوف من اعتراف داخلي بالفشل في التأثير.

ومع ذلك، لا يمكن أن نغفل جانبًا آخر في هذه المعادلة، وهو أن التأثير الكبير، أينما وُجد، يولّد مسؤولية. كلما كثر عدد المتابعين، كلما ازدادت الحاجة إلى الوعي بثقل الرسائل التي تُبث، خاصةً حين يكون الجمهور من فئة شابة أو قاصرة لا تزال تبحث عن ملامح لهويتها ووطنيتها وانتمائها. صحيح أن الشهرة قد تكون مفاجئة، ومكانة التأثير قد تأتي دون إعداد مسبق، لكن هذا لا يُعفي من المسؤولية الأخلاقية تجاه ما يُقال، وما يُزرع في النفوس. ليس المطلوب هو المثالية، بل الوعي بأن الفن لا يكتفي بالتعبير، بل يُمكن أن يُوجّه، ويُسهم في البناء، أو في التشظي.

ومن هنا يبرز السؤال المشروع: إن كان طوطو قد وجد صوته، فهل يشعر حقًا بمسؤولية هذا الصوت؟ هل يدرك أنه، في هذه اللحظة، لم يعد فقط يتكلم عن الغضب، بل أصبح جزءًا مما يوجّه هذا الغضب؟ وهل يستطيع أن يميز بين التعبير الصادق عن الألم، وبين ترسيخ الإحساس المستمر باللاانتماء؟ وهل يمكن أن توجد حرية خارج سياق القيم المشتركة دون أن يتحول الأمر إلى فوضى رمزية؟ حين يُصبح الفن أقوى من السياسة، يجب أن نُعيد تعريف الدور، لا أن نهرب منه.

نحن لسنا أمام ظاهرة عابرة. نحن أمام تحول حقيقي في خريطة التأثير الثقافي والاجتماعي. جيل لا يريد أن يُلقَّن، بل أن يُنصَت له. جيل لا يهتم كثيرًا بمن يرفضه أو يلومه، بقدر ما يهتم بأن يُعبّر عن نفسه كما هو، بلغته، بأخطائه، وبغضبه. وهذا لا يعني أن كل ما يأتي به هذا الجيل صواب، أو أن كل تعبير حرّ هو بالضرورة مسؤول. ولكن بدلًا من الاكتفاء بلوم الظواهر، ربما حان الوقت لنفهم أسبابها.

لكل جيل لغته، وذوقه، ووسيلته في التعبير. ليس من العدل أن يُحاكم هذا الجيل على مقاييس الذوق السابق، كما أنه ليس من الحكمة أن يتعامل الجيل الجديد مع الأجيال السابقة بتعنّت أو استعلاء. المطلوب ليس صراع أجيال، بل جسر تفاهم. ليس فرضًا من الأعلى، ولا رفضًا من الأسفل، بل محاولة صادقة لإعادة بناء المساحات المشتركة.

ما حدث في موازين، لم يكن مجرد صخب موسيقي… كان صوتًا خرج من الصمت الطويل.
الراب لم يُحدث الفوضى، بل أشار إليها. وطوطو، سواء اتفقنا معه أو لا، كان فقط مرآة… مرآة تجرّأنا أن ننظر فيها، ولو لثوانٍ، لنفهم أن هذا الجيل، ببساطة… لم يجد من يسمعه

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/v4ko

إيمان بوحزامة

About Author

اترك تعليقاً

اشترك معنا

    ننطلق من إيمان عميق بأن البيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي امتداد لصحتنا النفسية والجسدية،

    جريدة إلكترونية مغربية شاملة، متخصصة في قضايا الفلاحة، التنمية القروية، البيئة… وكل ما يربط الإنسان بالأرض والطبيعة من حوله.

    Gmedianews @2023. All Rights Reserved.