بلال الهلاوي
تعاني المجتمعات اليوم من آفةٍ مستفحلةٍ لم يُجْدِ معها علاج، ولم تُجْدِ معها زواجر القانون ولا نواهي التشريع؛ وباء يتناسخ مع الزمان، كلما اتّسعت رقعته، اسودَّ وجه الواقع وتفاقمت مآلاته، لم تُفلح في ردعه عقوبات سجنيّة، ولا غرامات ماليّة، ولم تَرُدَّهُ صرخات الضحايا، تعاني منه النساء في الطرقات والأسواق، في الإدارات والمعاهد، وفي سائر المرافق العامّة، حتى كأنّهنّ في غابة متوحشة لا في مجتمع متحضّر مأهول بالقوانين والمواثيق.
إنّ التحرّش الجنسيّ ليس إلا طائفةً من الإيماءات والتعريضات ذات الطابع الشهواني، قد تُلقى بالإشارة أو تُقال باللفظ، وقد تستحيل إلى العنف الجسديّ أحيانا، وهو سلوك شائن يُشعر الضحيّة بالضيق والحرج وفقدان الأمان، وإنّها لممارسة دخيلة؛ شاذّة، لا تمتُّ إلى منظومتنا الأخلاقية الإسلامية بصلة، يُقْدِمُ عليها رجل مهزوز البنية النفسية، منزوعُ المروءة، مهزوم أمام كبتٍ مترسّبٍ منذ صباه، لا يرى في المرأة إلّا جسدا مُباحا، وينسى أنها إنسان له روح وعقل وكرامة.
بعض المتحرّشين لا يرضون بالتلميح، بل يجاوزون الحدَّ إلى الاقتراب والمساس، كأنّهم لا يملكون زمامَ أنفسهم، وقد أُغْلِقَت أعينُهم عن وصايا الشرع التي تأمر بغضّ البصر، وتحثُّ على توقير النساء واحترام آدميّتهن.
وما هذه الآفة محصورة في فئة دون أخرى؛ فالجاهل والعالم، الفقير والغنيّ، جميعهم قد يقع في حبائلها، فكم من طالبة ابتُزّت في حرم جامعيٍّ طاهر مقابل بضع نقاط، وكم من فتاة طُورِدَت في السوق لتفصح عن رقم هاتفها قسرا، وكم من امرأة اعتُدي عليها لفظا أو لمسا على الشواطئ أو في الحدائق العامة، ولا يقتصر الأمر على بنات البلد، بل تتعدّى الممارسات المشينة إلى الزائرات الأجنبيات، فتُمسخ صورة الوطن، ويُلطَّخُ وجهُ الشباب، ويُصنَّف الجميع ظلما تحت مسمّى الانحطاط، فلا يُفرَّق بين صالح وطالح.
وما انفكّ المتحرّشون يتحجّجون بأوهى الذرائع، فمنهم من يزعم أنّ له سلطة تبيحُ له التعدّي مادامت المرأة ترتدي ما شاءت، وكأنّ لباسها يُسقط عنه لجامَ الأخلاق، وهذا تأويل سطحيّ ساذج، يُظهِر هشاشة فهمه، إذ لا يُبيح الشرع -الذي تُعلن البلاد رسميّا اعتناقَهُ حسب منطوق الفصل الثالث من الدستور 2011- التعدّي على أحد، مهما كانت هيئتُه أو سلوكُه، إن الله وحده هو الحسيب الرقيب، وليس من شأن البشر أن ينصّبوا أنفسهم قضاة وجلّادين كلما تعلق الأمر بحقوق الله، فمتى نفرّق بين الغيرة والتعدّي، وبين النصيحة والانتهاك؟ أليس الأجدر بمن لم يُعجبه حال أن يعرضَ عنه ويغضّ الطرف، لا أن يُمعن في الأذى باسم الفضيلة الزائفة؟
لقد اعتبر المشرّع المغربي التحرشَ جُرما صريحا، فعاقب عليه بموجب الفصل 1-503 من القانون الجنائي، حيث نصَّ على:
“يُعاقَبُ بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم، من أجل جريمة التحرش الجنسي، كل من استعمل ضد الغير أوامر أو تهديدات أو وسائل للإكراه أو أية وسيلة أخرى مستغلا السلطة التي تخولها له مهامه، لأغراض ذات طبيعة جنسية”
وتوسّعت النصوص بعد ذلك، فورد في الفصل 1-1-503 معاقبة من ارتكب التحرش في فضاء عامّ، سواء بالإشارة أو بالقول أو عبر رسائل مكتوبة أو إلكترونية، بالسجن من شهرٍ إلى ستّة أشهر وغرامةٍ تصل إلى عشرة آلاف درهم، وتتضاعف العقوبة إذا ارتُكِبَ الفعلُ من طرف زميل عمل أو أحد القائمين على الأمن والنظام، أما الفصل 2-1-503 فقد شدّد العقوبة إلى خمس سنوات إذا كان الفاعل من المحارم أو ممّن له ولاية أو وصاية على الضحية، أو إذا كانت هذه الأخيرة قاصرا.
وتكشف إحصائيات منظمة اليونيسيف أنّ ظاهرة التحرش ليست حكرا على منطقة دون أخرى، فقد سُجّلت أعلى النسب في إفريقيا جنوب الصحراء (22%)، تليها أمريكا اللاتينية والكاريبي (أكثر من 18%)، ثم شمال إفريقيا وغرب آسيا (15%)، في حين تراوحت النسبة في أوروبا وأمريكا الشمالية عند (14%)، بينما المناطق الأخرى فهي أقل من هذه النِّسب، وهو ما يدل على أن التحرش معضلةٌ عالميّة، لا تميّز بين حدود ولا أعراق.
ويرى بعض الأطبّاء أن التحرش ليس فقط سلوكا شائنا، بل عارض لاضطراب نفسيٍّ خفيّ، ينشأ عن الحرمان، أو ضعف الثقة بالنفس، لا سيّما عند الاحتكاك بالجنس الآخر، وقد يتحوّل هذا الإحساس بالنقص إلى عدوان لفظيٍّ أو جسديٍّ، يظنّ به المتحرّش أنه يرمّم ذاته، فيزداد انحدارا كلّما أوغل في فشله، ويُوصَى بمراجعة مختصّ نفسيٍّ كلّما لاحظ المرءُ انفلاتَ غرائزه أو عجزه عن كبحها.
ولا مناص من أن نُذكّر بدور الأسرة؛ فهي النواة الأولى لبناء الإنسان، فإذا شُيِّد البيتُ على الحبّ والتربية والاحترام، نبغ من بين جدرانه فرد مُهابُ الجانب، صادق الخُلق، يُوقِّرُ الكبيرَ ويرحمُ الصغير، ولا يُسيء إلى أحد لا قولا ولا فعلا، فلنتساءل جميعا: أيرضى المتحرش أن يُمسَّ عرضُ أمه أو أخته أو ابنته؟ فإن كان يأباه لهنّ، فكيف يرضاه لنساء الناس؟!. إنّنا لا نطلب أن يكون الجميع صالحا، لكن نطلب أن يكون الجميع إنسانا، وما الإنسان إلا خُلُق وسُلوك، فإن ضاعا، ضاعَ المعنى كلُّه، وخابت مساعي الأهل الذين سهروا على تنشئته.