إيمان بوحزامة

سكت أنس هذه المرة، لكنها كانت سكتة الأبد.
لم يرحل فقط، بل أقام الحجة على الأحياء قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
أقام الحجة على كل من لا يزال يرفع صوته نصرةً للمطبعين والمتصهينين، وعلى كل من يخطّ حروفاً ستشهد عليه يوماً ما، وعلى كل من يستكثر أن يقاطع منتجاً يمد الاحتلال بالسلاح والمال ليستمر في قتل غزة وتجويعها وحرق أطفالها.
رحل أنس، لكن صورته الأخيرة كانت صفعة لكل من اختار أن يبرر، أو يتغاضى، أو يساوم على دم الإنسان.

ما حدث لأنس الشريف ورفاقه ليس حادثاً معزولاً، بل هو حلقة في مسلسل اغتيال الحقيقة.
فالاحتلال يعرف جيداً أن الرصاصة التي تقتل الصحفي تقتل الشهادة، وأن الكاميرا إذا صمتت، خفتت الرواية الفلسطينية.
ولهذا صار استهداف الإعلام جزءاً من استراتيجيته العسكرية، بدم بارد، أمام عدسات العالم، مستنداً إلى حصانة الصمت الدولي، وإلى منظومة عدالة دولية مشلولة، تتحرك حين تريد وتغض الطرف حين يشاء ميزان القوة.

قانونياً، اتفاقيات جنيف والمادة 79 التي تحمي الصحفيين في مناطق النزاع لم تُكتب لتكون زينة في أرشيف الأمم المتحدة، لكنها اليوم تُعامل كذلك.
سياسياً، نحن أمام عملية تصفية ممنهجة للرواية الفلسطينية، تهدف إلى إخماد أي صوت قادر على كسر احتكار الاحتلال للصورة والكلمة.
أما أخلاقياً، فإن من يمد يده لشراء منتج داعم للمحتل، أو يبرر قتل الأبرياء، أو يروّج للتطبيع، فهو شريك في الجريمة، حتى لو ادّعى البراءة.

لقد ظن الاحتلال أن اغتيال أنس سيطفئ الكاميرا، لكنه نسي أن الصورة التي التقطها بآخر أنفاسه ستظل أبلغ من كل نشرات الأخبار.
هذه الصورة، وهذا الدم، هما الحكم على كل ساكت، وكل متواطئ، وكل من اختار أن يكون الحياد غطاءً للعار.
وإذا كان الصمت جريمة، فإن الحياد في زمن الإبادة خيانة مكتملة الأركان.