شهد قطاع السيارات بالمغرب خلال النصف الأول من سنة 2025 طفرة غير مسبوقة في المبيعات، حيث بلغ عدد السيارات المباعة ما يقارب 99.300 سيارة ركاب، وهو ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 34% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية. هذا المعطى الرقمي، رغم أهميته، لا يُمكن عزله عن السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمستهلك المغربي، الذي أعاد النظر في مفهوم “امتلاك السيارة”، وحوّله من رمز اجتماعي إلى استثمار عملي وحاجة وظيفية.
داسيا، من سيارة متواضعة إلى رمز الاستهلاك الذكي
تُعد علامة داسيا Dacia الرابح الأكبر من هذا التحول، حيث تصدّرت مبيعات السوق بـ23.600 سيارة خلال ستة أشهر فقط، متقدمة على علامات تاريخية مثل رينو (17.400) وهيونداي (9.000). غير أن هذا التفوق لا يمكن تفسيره فقط من خلال التسعير، بل يتطلب فهماً أعمق للتركيبة النفسية والسلوكية للمستهلك المغربي. داسيا لم تعد مجرد سيارة اقتصادية، بل أصبحت عنوانًا لفئة عريضة من المغاربة تسعى للتوفيق بين الجودة، الكلفة، والاستعمال اليومي دون تعقيدات.
منظومة متكاملة تدعم نجاح داسيا في السوق المغربي
نجاح داسيا يعود إلى تداخل عدة عناصر متكاملة. أولًا، يتم تجميع سيارات داسيا محليًا في مصنع طنجة، ما يقلص من تكاليف الإنتاج والتوزيع، ويمنحها قدرة تنافسية تفوق المستورد الأوروبي أو الآسيوي. ثانيًا، تتسم سياراتها بتصميم عملي بسيط، خالٍ من الزخرفة المبالغ فيها، مما يجعلها سهلة الاستخدام والصيانة، وملائمة لمختلف أنماط الاستعمال: من المدينة إلى القرى، ومن الأسر إلى المقاولين الذاتيين.
ثالثًا، تستفيد داسيا من شبكة توزيع قوية، وخدمة ما بعد البيع محلية وسريعة، وعروض تمويل ميسّرة تشمل مقدمًا منخفضًا وأقساطًا شهرية معقولة. رابعًا، اكتسبت داسيا على مر السنوات سمعة قوية لدى المستهلك المغربي بأنها “سيارة كتعيش، ما كتخونش”، وهو نوع من الثقة الشعبية يصعب قياسه رقميًا، لكنه حاسم في قرار الشراء.
لماذا يتجه المغاربة نحو السيارات الجديدة بدل المستعملة؟
من أبرز التحولات التي رافقت ارتفاع المبيعات في 2025 هو تغير موقف المغاربة من السيارات المستعملة. ففي حين كانت هذه الفئة تُعتبر الخيار الأول لعقود، خاصة المستورد من أوروبا، بدأ المستهلك يكتشف أن الأسعار تضخمت بشكل مبالغ فيه، وأن كلفة الإصلاح، وغياب الضمان، وارتفاع المخاطر القانونية، جعلت السيارات الجديدة خيارًا أكثر أمانًا من الناحية المالية والنفسية.
الأهم من ذلك، أن شركات التمويل والبنوك لعبت دورًا جوهريًا في هذا التحول، من خلال تسهيلات غير مسبوقة لاقتناء سيارات جديدة، حتى بالنسبة للطبقة المتوسطة والموظفين الشباب. فالعروض التي تبدأ بدون دفعة أولى، أو بقسط شهري يعادل كلفة سيارة أجرة يوميًا، غيّرت المعادلة تمامًا، وفتحت الباب أمام ملايين المغاربة للولوج إلى سوق السيارات الجديدة.
ثقافة استهلاكية جديدة: من “الواجهة” إلى “الوظيفة”
ما يحدث اليوم في السوق المغربي ليس فقط تحوّلًا في الأرقام، بل في العقليات أيضًا. لم تعد السيارة رمزًا للهيبة أو للطبقية، كما كان في السابق، بل أصبحت أداة تسهيل للحياة، ووسيلة إنتاج، وأحيانًا جزءًا من مشروع مهني (توصيل، تنقل حر، خدمة ذاتية…). وقد أظهرت تقارير سلوك المستهلك أن فئة الثلاثينيات من العمر، وهي الفئة النشيطة اقتصاديًا، تبحث عن سيارات يمكنها الوثوق بها يوميًا، دون أن تُضطر لزيارة الميكانيكي أسبوعيًا أو الدخول في مغامرات قانونية بسبب مصدر السيارة.
ماذا عن المنافسين؟ كيف يواجهون زحف داسيا؟
رغم تصدر داسيا، لا يمكن إنكار أن علامات أخرى مثل رينو وهيونداي ما تزال تحافظ على حضور قوي. رينو، المرتبطة تاريخيًا بالسوق المغربي، تستفيد من تقاطع مصالحها مع داسيا، في حين تقدم هيونداي تصميمات عصرية وضمانات طويلة الأمد. أما علامات مثل بيجو، فولكسفاجن، وأوبل، فتواجه صعوبات في تحقيق المعادلة التي نجحت فيها داسيا: سيارة عملية، بسعر مناسب، وبضمان مغربي.
أما السيارات الفاخرة مثل أودي وسكودا، فتبقى خارج المنافسة الجماهيرية، وتحافظ على وجود نخبوي محدود في السوق، دون أن تمثل تهديدًا فعليًا على الفئات الاقتصادية.
مستقبل السوق: هل نحن أمام تحوّل دائم؟
إذا استمرت الدينامية الحالية، فمن المرجح أن يتواصل نمو السوق، خاصة إذا عززت الدولة البنية التحتية للنقل والتمويل، وشجعت التحول نحو السيارات النظيفة. ومع دخول علامات جديدة صينية وكهربائية، من المتوقع أن تتنوع العروض أكثر، ما سيزيد من حدة المنافسة، ويرفع من وعي المستهلك المغربي الذي بات يعرف كيف يختار بعقلانية.
لكن في الوقت الراهن، تبقى داسيا حالة فريدة. ليست فقط شركة ناجحة، بل ظاهرة اجتماعية واقتصادية تعكس حاجة المواطن المغربي إلى حلول واقعية، تحترم قدرته الشرائية وتخاطب أولوياته.
داسيا ليست فقط سيارة… إنها انعكاس لمرحلة وذهنية جديدة
ما يحدث في سوق السيارات المغربية اليوم لا يمكن اختزاله في معطيات تجارية، بل هو مرآة لتحول عميق في الذهنية الاستهلاكية للمواطن المغربي. من ثقافة الاستعراض إلى ثقافة الاستحقاق، ومن التبعية في الاستيراد إلى الثقة في المنتج المحلي، ومن الإنفاق العاطفي إلى التملك العقلاني.
في قلب هذا التغيير تقف “داسيا”… لا بصفتها فقط الأكثر مبيعًا، بل لأنها السيارة التي فهمت جيدًا ما يبحث عنه المغاربة: الجودة، الاقتصاد، الأمان، والبساطة. وربما لهذا السبب، ستبقى داسيا لأعوام قادمة مرادفًا لمرحلة استهلاكية مغربية جديدة… أكثر وعيًا، وأكثر ثقة.