كلمة الرأي ملفات

حين يحترق الإنسان مرتين: في جسده، وفي صمت العالم

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/kig6

بقلم: إيمان بوحزامة

في لحظة واحدة، ومن مكانين متباعدين، اختطف الموت روحين شابتين، بالكيفية ذاتها تقريبًا: احتراق.
اللاعب البرتغالي ديوغو جوتا، قضى هو وشقيقه الأصغر في حادثة سير مأساوية. سيارة تحترق، وأحلام رياضية تنطفئ على قارعة طريق سريع.
وفي غزة، وتحديدًا في مخيم النصيرات، أب فلسطيني يُحتضن طفلته الصغيرة بين ذراعيه، لا ليحميها من برد أو مرض، بل من قذيفة سقطت فوقهم فجأة، فاحترق الجسدان في صورة واحدة، صامتة، موجعة، لم تجد طريقها للصفحات الأولى ولا للمنصات العالمية.

الموت مشترك، والمأساة واحدة، ولكن التفاعل… عالَمان متباعدان.

تدفقت مشاعر الحزن من كل حدب وصوب على وفاة جوتا، وهو أمر طبيعي ومفهوم. الأندية الكبرى نعته، المشاهير تأثروا، والفيفا عبّر عن أسفه، والجماهير بكته بحرارة. كانت لحظة إنسانية مؤثرة، أثبتت أن الرياضة تتجاوز الحدود، وأن الإنسان حين يخسر من يحب، لا يحتاج لترجمة ليحزن.

لكن في المقابل، غاب كل ذلك في موت الفلسطيني وطفلته. رغم أن المشهد لا يقل ألمًا، ولا يحمل أية تعقيدات أخلاقية: رجل وطفلة، أب وابنته، قضيا معًا.
ببساطة… لم يكن اسمهما معروفًا بما يكفي. لم تكن لديهما “علامة تجارية” تستدعي التضامن، ولا سيرة رياضية أو جماهيرية تحميهما من النسيان.

وهنا، تتكشف المأساة الحقيقية: أن يصبح الحزن شعورًا انتقائيًا، مرتبطًا بالشهرة، أو بالجنسية، أو بمكان الموت.
أن يُعامل الإنسان كقيمة تفاوضية في سوق التفاعل، لا كحياة يجب أن تُصان، وأن يُبكى عليها.

المشكلة لا تكمن في الحزن على جوتا، بل في غياب الحزن على الآخرين.
لا في الدموع التي انهمرت من أجل لاعب، بل في القلوب التي جفّت أمام طفل احترق مع والده، ولم تهتز.

نحن لا نطالب العالم بأن يتوقف عن التعاطف، بل بأن يُوسّع تعريفه للضحايا.
أن يُعيد النظر في مرآته الأخلاقية، التي تنعكس فيها ملامح معينة فقط.
أن يعترف بأن هناك من يحترق مرتين: مرة من نارٍ حقيقية، ومرة من تجاهل العالم الذي لا يرى، أو يرى ويتغاضى.

العدالة لا تكون في معايير القانون وحده، بل في معايير الحزن أيضًا.
حين يصبح البكاء ترفًا يُمنح للبعض ويُحرم منه آخرون، فنحن أمام خللٍ عميق في جوهر إنسانيتنا.

لا نريد حزنًا مُسيّسًا، ولا تضامنًا مشروطًا.
نريد فقط أن يُعامل موتانا كما يُعامل موتاهم.
أن يكون الاحتراق، في أي مكان، سببًا كافيًا لفتح العين، وتحريك القلب، لا لتبديل القناة.

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/kig6

إيمان بوحزامة

About Author

اترك تعليقاً

اشترك معنا

    ننطلق من إيمان عميق بأن البيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي امتداد لصحتنا النفسية والجسدية،

    جريدة إلكترونية مغربية شاملة، متخصصة في قضايا الفلاحة، التنمية القروية، البيئة… وكل ما يربط الإنسان بالأرض والطبيعة من حوله.

    Gmedianews @2023. All Rights Reserved.