إيمان بوحزامة
حين يخرج أبو عبيدة ليتحدث بعد أشهر من الغياب، لا يفعل ذلك ليملأ فراغاً في التغطية، بل لأنه يدرك أن لحظة ما تجاوزت الحد. لحظة لم يعد فيها للدم طعم الصدمة، ولا للخذلان أي تكلفة. وحين تصدر المقاومة بياناً بهذا الثقل، فهي لا تبحث عن تأييد بقدر ما تضع إصبعها على الجرح، وتفتحه على الملأ.
خطابه الأخير لم يكن عسكرياً بالمعنى التقليدي. كان بيان محاكمة. ليس للعدو وحده، بل للأصدقاء الذين تواطأوا بالصمت، للحكومات التي غسلت يديها من غزة، وغسلت معها وجهها أمام المرآة. لقد قال ما لم يجرؤ كثيرون على الاعتراف به: أن الحياد جريمة حين يتحوّل إلى ستار للتهرّب من الواجب، وأن الصمت حين يعمّ، يصبح طرفاً في المجزرة.
في كل جملة، كان هناك نداء واضح: هذه معركة وجود لا مساومة. هذه معركة الكرامة أمام صناعة الإذلال. ولم يكن حديثه عن صفقات الأسرى تفصيلاً تقنياً، بل كشفاً عن عمق الهوة بين من يريد إنهاء الحرب بكرامة، ومن يريد كسرنا بالصبر، وإقناعنا أن الموت خيار عقلاني.
لا يطلب الخطاب من أحد أن يحمل السلاح، بل يطلب ألّا نُشارك في دفن الضمير. يطلب فقط ألّا يتحوّل الإنسان العربي إلى نسخة مفرغة من وجدانه، تنتظر بيانات العواصم الكبرى لتعرف موقعها من الألم.
والأشد وقعاً، لم يكن الهجوم على العدو، بل تلك الصفعة التي وجهها إلى أبناء جلدتنا الذين اختاروا الخيانة طوعاً. لم يكن تهديداً بمفهومه الضيق، بل تشريحاً لانهيار الذات. من يختار خيانة أهله تحت وهم النجاة، يختار أن يموت خارج التاريخ. الخطورة ليست فيهم، بل في قابلية المجتمعات لابتلاع وجودهم بصمت.
أبو عبيدة لم يكن فقط يوجّه رسالة للميدان. كان يضع الأمة كلها أمام مرآة صدئة. يسألها: من أنتم اليوم؟ ماذا بقي منكم؟ هل ما زلتم تسمعون؟ أم أن الضجيج الذي في رؤوسكم بات أعلى من صوت المجازر؟
هذا الخطاب لا يُفترض أن نتفق معه أو نعارضه. المطلوب فقط أن نهتز. أن نتوقف. أن نشعر بالخجل. لأن من يواصلون القتال لا يفعلون ذلك لأنهم خارقون، بل لأنهم رفضوا أن يعيشوا على ركام المبادئ.
إنه خطاب لا يطلب الإجماع، بل يفرض المحاسبة. لا يستجدي تعاطفاً، بل يستدعي اليقظة. لأن الخطر اليوم ليس في الاحتلال فقط، بل في قابلية التعايش مع وجوده، ومع صمتنا.