إيمان بوحزامة
في زمن التهافت على “الترند”، أصبح كل شيء قابلًا للمقايضة: المبادئ، القضايا، وحتى الدماء. وفجأة، يطفو إلى سطح الخطاب المغربي شعار خادش للضمير: “تازة قبل غزة”. عبارة قصيرة، لكنها تسقط من أول نظرة في فخ الابتذال، وتكشف عن انهيار تدريجي في منسوب الوعي، حين تصبح المأساة مجرد أداة لغوية، والإنسانية مجرّد ديكور نظري.
الخلل ليس لغويًا. فالعبارة موزونة، موحية، وقابلة للتداول. لكنها مليئة بالسخرية الصامتة، واللامبالاة المقنّعة، والجهل الذي يرتدي قناع الواقعية. وكأن من صاغها يريد إقناعنا أن التضامن فعل ترف، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحمل وجعين في قلبٍ واحد. أو كأنّ الذكاء اليوم يُقاس بمدى قدرتنا على نزع القداسة عن القضايا، وتسويقها ببساطة الشارع وبلادة المنصات.
أن تُقدَّم مدينة مغربية مهمّشة كأولوية فوق مدينة تُذبح يوميًا تحت الاحتلال، ليس فقط خللًا أخلاقيًا، بل سقوطًا في فخ تسليع المعاناة. من قال إن الدفاع عن تازة لا يتحقّق إلا بالسكوت عن غزة؟ من قال إننا لن ننتبه لحرقة وطنية إلا إذا قارنّاها بجحيم إنساني خارج الحدود؟ من قال إن وطنيتي يجب أن تأتي على حساب ضميري؟
هذه العبارة لا تقول الحقيقة. بل تُلخّص أزمةً أعمق: أزمة مجتمع بدأ يتعوّد على العيش بدون بوصلة، وبدون ترتيب أخلاقي للقيم. مجتمع صار فيه كل شيء قابلاً للمقارنة، حتى الموت، حتى الألم، حتى الظلم.
لا، ليست تازة قبل غزة. وليست غزة قبل تازة. بل هما في سطرٍ واحد، في القلب نفسه، في جرحٍ واحد يُمزّقنا من الداخل والخارج. فمن لا يشعر بالعدالة حين تُغتال في فلسطين، لن يشعر بها حين تُغتصب في المغرب. ومن يتعلّل بألم هنا ليتجاهل الدم هناك، إنما يُجهز على ما تبقى من إنسانيته. لأنه ببساطة: الظلم لا جنسية له، والحرية لا تُجزَّأ.
إن من يقايض غزة بتازة، سيقايض غدًا تازة بشعار آخر، وسيرتّب المآسي كما يُرتَّب المحتوى على “الستوري”: حسب عدد المشاهدات، لا حجم الخسارات.
أشدّ ما نحتاجه اليوم ليس فقط تضامنًا مع غزة، بل مقاومة لهذا الانحدار القيمي داخل الخطاب المغربي. مقاومة لابتذال الإنسان، لتحويل القضية إلى نكتة، ولتسويق الألم على شكل “كلمات مفتاحية” تليق بالمنصات لا بالضمائر.
لنكون اكثر وضوحا، من أراد الدفاع عن تازة، فليكن بقدر جراحها، لا على حساب غيرها.
ومن أراد أن “يبدع” في الشعارات، فليكن لديه ما يكفي من العمق ليفرّق بين البلاغة والتفاهة، وبين اللعب بالكلمات والعبث بالقيم.