إيمان بوحزامة
في عالم يتعطش للحرية، يختلط أحياناً الحق المشروع في التعبير مع نزعات الاستفزاز وإهانة المعتقدات. والحرية، التي يُفترض أن تكون جسراً للتواصل، تتحول أحياناً إلى أداة هدم للروابط المجتمعية، وشرارة لفتنة تمس السلم العام. فإذا كانت حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، فأين ينتهي التعبير ويبدأ التطاول؟
اليوم، بينما تتدفق عيون العالم نحو غزة، حيث ترتسم مآسي الإنسان الفلسطيني في لوحة من الألم والدمار، نستفيق على صرخات طفل يتيم، وعلى شهيد لم يجد حتى حرمة في قصف لم يرحم لا شيخاً ولا طفلاً، لا صحفياً ولا مصلحاً. وفي هذا المشهد البشع، تقف إسرائيل، الدولة التي تُمارس أبشع أشكال القتل والتشريد، تستبيح حياة ملايين البشر بحجج واهية عن “الأمن” و”الدفاع عن النفس”، متجاهلة أبسط حقوق الإنسان: حقه في الحياة، في الحرية، في الكرامة.
لكن هناك من يتحدث عن حرية التعبير، مستخدماً ذلك كغطاء ليزبح مشاعر ملايين المؤمنين، مستثنياً الدين من دائرة الاحترام، متجاهلاً أن حرية التعبير ليست استباحة ولا إهانة. الحرية لا تعني إذلال الآخر، ولا أن نمارس إقصاءه أو ازدراء معتقده. فكما قال الحكماء: “حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين”. هذه الحقيقة هي العصب الذي يوازن بين حقوق الإنسان وكرامته.
الناشطة ابتسام لشكر، التي تُعد وجهاً بارزاً ورمزاً لحركة “مالي”، لم تتورع عن نشر محتوى مسيء للدين الإسلامي، مدعية أنها تمارس حرية التعبير. لكن حرية التعبير ليست ترفاً يمكن للمرء أن يستخدمه ليغتال مقدسات الآخرين ويزرع الفتنة في المجتمع. في بلد كالمغرب، حيث الإسلام هو دين الدولة، والدستور يحميه، فإن حماية النظام العام وحفظ كرامة المواطنين هي مسؤولية لا مناص منها. القانون المغربي، عبر فصوله، يجرم الأفعال التي تمس المقدسات، لا ليقيد الحرية، بل ليحفظ تعايشاً محترماً وسلاماً اجتماعياً.
وهنا تكمن المفارقة الكبيرة: بينما تحاصر إسرائيل أبناء فلسطين، تقتلهم، وتشردهم، وتحطم بيوتهم وأحلامهم، نجد من يتجرأ على إهانة معتقد الغالبية المسلمة، وفي الوقت نفسه يطالب بحرية تُمارس على حساب كرامة الملايين. هذه هي الحرية المزيفة، الحرية التي تُركع أمام سياسة الإبادة والتطهير، وتغض الطرف عن الجرائم البشعة، لكنها تزعزع استقرار المجتمع وتنشر الفتنة على أراضيه.
العالم الغربي، الذي يدّعي قيم الحرية وحقوق الإنسان، صامت اليوم أمام المجازر التي تُرتكب في غزة، ويتسامح مع استهداف الصحفيين، ويغض الطرف عن تدمير حرية التعبير الحقيقية في الميدان، ويقف متفرجاً بينما تُداس كرامة الإنسان الفلسطيني في الشوارع. وهذا الصمت المريب هو نفس الصمت الذي يسمح بممارسات تعيّن على إهانة الدين في بلاد المسلمين، ويحرض على النزاع الداخلي بدلاً من تعزيز التضامن والاحترام.
حرية التعبير مسؤولية قبل أن تكون حقاً. ومسؤولية من يمارسها أن يعرف حدودها، وأن يحترم الآخرين. والحرية التي تُمارس ضد آخرين، خاصة في أوقات الشدائد التي تمر بها أمتنا، ليست حرية، بل هي سلاح بيد من يريد أن يفرق لا أن يجمع، أن يقتل لا أن يحيا.
ففي زمن تُقتل فيه الأبرياء في غزة تحت وابل القنابل، لا مكان للحرية التي تحترق على مذبح الاستفزازات، ولا مكان لصراعات تُشتت الصف، بل مكان للوقوف صفاً واحداً ضد العدوان، والتمسك بقيمنا الأصيلة التي تجمعنا لا تفرقنا.
الحرية الحقيقية ليست في إهانة الدين، ولا في الصمت على القتل والدمار، بل في احترام الكرامة، وحماية الحقوق، والدفاع عن المستضعفين، أينما كانوا.