بلال الهلاوي
لطالما كان الإنسانُ لبَّ الابتكار ومعدن الإبداع، بما خصَّه الله من عقلٍ نَيِّر، وذهنٍ وَقَّاد، جعله به متفرّدا عن سائر الخلائق. فبهذا الفيض الربّانيّ، قطع أشواطا طوالا في دروب التقدّم والازدهار، سواء في الاجتماع أو الاقتصاد أو الثقافة، بل في سائر ميادين الحياة، لم يكن كائنا هامشيّا يُستأنَس به، بل كان قطبَ الرحى، ومَدارَ الحركة، وأصلَ النهوض، ومِعوَل العمران، به تستقيم الأمم، وبه تنهض الحضارات وتعلو.
لقد أوتي الإنسان نعمة الاكتشاف، وسعة الاستكشاف، فمن خلاله تم التوصّل إلى أسرار الدواء، وتفتّحت أبواب الفضاء، وتجلّت قوانين الفيزياء وأسرار الكيمياء وأصول الرياضيات، به تَفَقَّهنا في معاني الذكر الحكيم، وبه تبيّنّا سبيل الدين القويم، وبه أُتقِنَ اللِّباس الذي يَكفينا حرَّ القيظ وبرد الصقيع، هو من بنى الدُّور والمساجد والمدارس والمشافي وسائر العمران، فكيف لنا بعد كلّ هذا أن نغفل عن بنائه، وننشغل عن تهذيبه، ونُولي الحجر عناية وندع صانعه؟!
لقد سطعت شمسُ العناية بالعقل إبّان العصور الإسلامية المجيدة، زمن الخلافة الراشدة، وامتدادا في العصرين الأموي والعباسي، إذ وُضِع العقل في مقام الصدارة، ورُفِعَت مكانة العلماء، وصار السلطان يتقصّدُهم من الأمصار، ويستجلبُهم من الأقطار، ليعمر بهم بلاده، ويرتقي برعيّته، ويُفاخر الدنيا برجال الفكر والعرفان.
وفيما كانت ديار الإسلام تُسبِغُ على العلماء إكراما واحتضانا، كانت أوروبا، في قرونها الظلماء، تُقيم المشانق لكلّ عقل مُستنير، وتحرق كلّ فكر طليق، كانت الكنيسة تضرب بسيف التكفير، وتقصي كلّ من رام الانفكاك من إسارها، وقد كان من ضحاياها “برونو غاليليو” فيلسوفا ومفكّرا في علوم الكون، أُحرِق حيّا في روما، كما سُجِن “غاليليو غاليلي” وغيرهم ممّن شُرِّدوا وقُتِلوا في زمن الجهالة والطغيان.
ثم جاء العصر العثماني، فكان للعلماء فيه حظوة سامقة، فقلّدهم السلاطين المناصب، وجعلوهم أركانا في دولة الخلافة، نذكر منهم: “ابن كمال باشا” الفقيه المؤرّخ؛ “أبو السعود أفندي” من كبار الفقهاء؛ “تقي الدين الشامي” عالم الفلك وصاحب المرصد الشهير في القسطنطينية )إسطنبول حاليا(؛ “مصطفى نعيمة” المؤرّخ الذي وثّق أخبار العثمانيين في سفره المعروف بـ)تاريخ نعيمة(؛ فضلا عن “آق شمس الدين” و “الشيخ أديبالي” وغيرهم ممّن أزهرت بهم العلوم في رحاب الدولة العثمانية.
ولم تكن المملكة المغربية الشريفة بمعزل عن هذا الركب، بل كانت منارة علم، ومأرزا لفحول الفقهاء والعلماء منذ أول دولة إسلامية على ثراها، نذكر منهم: “يحيى بن يحيى الليثي” ناشر المذهب المالكي؛ “ابن أبي زرع“ مؤرّخ الدولة الإدريسية وصاحب )روض القرطاس(؛ “أبو وليد الباجي” الفقيه المالكي؛ “أبو بكر بن العربي” القاضي والمفسّر؛ “القاضي عياض” مؤلّف كتاب )الشفا(؛ “الإدريسي” الرحّالة والجغرافي الشهير وصاحب كتاب )نزهة المشتاق في اختراق الآفاق(؛ “ابن رشد” الفيلسوف الطبيب الذي أفاد الغرب من مؤلفاته؛ “ابن طفيل” صاحب رواية )حيّ بن يقظان(؛ “أبو العلاء الزهراوي” الطبيب التجريبي الذي اشتهر باستخدامه المنهج التجريبي في التشخيص؛ و “أحمد زروق” المتصوّف والعالِم المالكي؛ وغيرهم ممّن شادوا صرح الفكر، ورفعوا منار الحضارة في أقطار البلاد.
وحين أفاق الغرب من غفوة الجهل، واستبان له فداحة ما اقترف في حقّ مفكّريه، بزغ ما يُعرف بعصر النهضة، حيث أُعِيد للعقل اعتباره، وأُعطِي العلماء ما يستحقون من رفعة ومكانة، حتى صاروا أعلاما تفوق شهرتهم شهرة الزعماء. وجاءت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، فبدّلت وجه العالم، وغدت الصناعة عصبا محوريّا للاقتصاد، متجاوزة الزراعة التي ظلّت مهيمنة لقرون.
لكن ويا للأسف، في العالم الثالث ما زال الإنسان في ذيل الأولويات، مقصيّا من قائمة الاعتبار، تُبذل الأموال في التُّحف العمرانية والملاعب الباذخة، ويُغفَل عن بناء العقول والمدارس والمستشفيات، تلك المدارس التي من المفترض أن ترفع الإنسان وتُعلِي شأنه، باتت عند بعضهم مشقّة لا غاية، وغدا الشبابُ يقتدي بالسفلة بدلَ أن يتأسّى بالعلماء الأفذاذ، كابن رشد وابن طفيلوالقاضي عياضوأحمد زروق، الذين كانوا منارة للعلم في زمانهم.
فما قيمة حجرٍ يُرصُّ فوق حجر، إن لم يكن تحته عقل مفكّر، وقلب مستنير؟!
نعم، لا غضاضة في بناء الملاعب، ما دامت تُدرُّ مالا وتُدخل نفعا، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب بناء الإنسان، كيف نغفل عن حال طلبتنا الذين ما إن يُحْرزوا شهادة البكالوريا حتى يتطلّعوا إلى الهجرة صوب جامعات تحترم العقول؟ كيف نغضّ الطرف عن جامعاتنا التي بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ كيف نرضى لمناطق نائية أن تبقى بلا مدارس، أو بمؤسسات توشك أن تنهار فوق رؤوس الأطفال؟! كيف نغفل عن حال المستشفيات التي ما عادت تُطْبب، بل تُزَكّي السفر إلى الخارج لمن استطاع إليه سبيلا؟! وكيف لا نُراجع أنفسنا وقد أهملنا شأن المعلّم، مربي الأجيال، وأبقيناه في ذيل القوائم؟!
إن أردنا إصلاحا، فلنكن صرحاء مع ذواتنا، ولنكفّ عن رفع الشعارات الرنّانة الخاوية من المضمون، ينبغي أن نعيد الاعتبار للإنسان، أن نُحسن الإنفاق على العقل قبل الحجر، أن نوازن بين البناء المادي والمعنوي، فليس من رشدٍ أن نُشيّد البنيان ونهدم الإنسان، إذ إنّ الحضارات لا تقوم إلا على أكتاف العلم، وما فُقِد العلم في أمّة إلا ذبلت وتقهقرت، فصارَت أطلالا تُرثى، وحجارة بلا روح.