إيمان بوحزامة
في زمن تتسابق فيه العواصم إلى التطبيع، وتُختزل فيه القضية الفلسطينية إلى خبر عابر أو تغريدة تضامنية، يواصل المغرب رسم معادلة خاصة به، يتقن من خلالها الجمع بين التضامن الشعبي الواسع مع فلسطين، والمواقف الرسمية المحكومة بتوازنات إقليمية ودولية دقيقة.
تتناوب في المغرب مشاهد تبدو في ظاهرها متناقضة: قوافل مساعدات إنسانية تعبر الحدود صوب غزة، تسبقها صلوات الغاضبين في المساجد، ومظاهرات تغص بها الشوارع نصرة للقدس، في الوقت الذي تُعقد فيه لقاءات رسمية مع الجانب الإسرائيلي على مستويات مختلفة.
هذا ليس تناقضاً عارضاً، بل سِمة سياسية راسخة في مغرب اختار أن يكون جزءاً من المعادلة الدولية دون أن يغادر وجدانه الجمعي. مغربٌ رسمي يرسم خطوطه ضمن هندسة المصالح الكبرى، ومغرب شعبي يرفض أن يهادن في قضاياه الأخلاقية والمبدئية. وكأنهما جسدان بروح واحدة، تتقاطعان حيناً، وتتنافران أحياناً، دون أن يحدث الانفصال الكامل.
فرغم توقيعه على اتفاق التطبيع في سياق إقليمي شديد التعقيد، لا تزال الدولة المغربية تترأس لجنة القدس، وتُصرّ على وصف الاحتلال بالاحتلال، وتُوجّه تعليمات عليا بتنظيم قوافل الدعم العيني والطبي نحو قطاع غزة، دعمٌ لا يمرّ عبر عدسات كاميرات الاستعراض، بل يشق طريقه من الثكنات اللوجستية إلى المعابر، ليصل إلى الفلسطينيين في لحظات القهر والحصار.
ولأن المغرب يعرف تماماً أن التطبيع لم ولن يصبح ثقافة في هذا البلد، فإنه لا يُحاول حتى فرضه على الشارع. فلم نرَ محاولات فجة لشرعنة هذا المسار، ولا مسحاً لذاكرة شعب ظلت فلسطين بالنسبة له عنواناً للكرامة الجماعية، من المدارس إلى النقابات، ومن المقاهي إلى الجوامع.
وهنا، تتجلّى واحدة من أعقد المعادلات: دولة تُطبع، لكن شعبها لا ينسى. دولة تتفاعل مع السياقات الدولية، لكنها تعرف أن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، ليس فقط من منطلق وطني أو ديني، بل أيضاً من منطلق سياسي يعرف أن شرعية الداخل أغلى من مصالح العابرين.
منذ بداية العدوان على غزة، تحرّكت الشوارع المغربية قبل أن تتحرّك كثير من الدول. ومنذ اليوم الأول، كانت طائرات المغرب تحطّ في مطار العريش محمّلة بالدواء والغذاء، في وقت كانت فيه عواصم أخرى تكتفي ببيانات باردة. الملك محمد السادس، الذي يرأس لجنة القدس، حرص على أن تكون مواقف المغرب العملية مكمّلة لصوت الشارع، لا متناقضة معه، فكان الدعم فعلاً لا قولاً، والموقف التزاماً لا مجرد حسابات.
ولعل واحدة من أكثر اللحظات تعبيراً عن هذا التوازن المغربي، كانت في صيف 2021، حين استقبلت الرباط وفدًا رفيعًا من حركة حماس، برئاسة إسماعيل هنية، في زيارة رسمية لقيت حفاوة بالغة، وشهدت عشاءً سياسيًا على شرف الوفد، بحضور شخصيات من أحد الأحزاب المشكلة آنذاك للحكومة.
هي لحظة لم تكن مجرد رسالة رمزية، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن قدرة المغرب على الفصل بين ما تمليه الضرورات الدبلوماسية، وما تُمليه القيم الوطنية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية.
فهل نحن أمام ازدواجية؟ ربما.
لكن الأهم أننا أمام نموذج مغربي لا يُقلّد، ولا يذوب، بل يختار مساره بتوازن دقيق بين واجب الدولة وضمير الأمة.
المغرب، بتعقيداته وتاريخه وتنوعه، لا يمكن اختزاله في بيان دبلوماسي ولا في شعار مظاهرة. هو كيان حيّ، يتنفّس السياسة، ويتقن العيش وسط التناقضات، دون أن يفقد جوهره.
وفي زمن يسهل فيه السقوط في التطرف، بين مطبّع يُبرّر كل شيء، ومقاوم يرفض كل شيء، يواصل المغرب السير على الحبل، بثبات حذر، وذكاء تاريخي، وشرعية تكتسبها الأنظمة حين تظل آذانها مفتوحة لنبض شعوبها.