يوسف بوصولة
انتهت رحلة سفينة حنظلة، تركتا خلفها فلسفة ستدرّس لعقود قادمة. الإيمان بالقضية، مقرونا بالعلم والمعرفة، يدفع المرء إلى اتخاذ قرارات قد تبدو جنونية أو رعناء في كثير من الأحيان، لكن الإنسانية التي نفتقدها فينا تجعل الإنسان يقدم على خطوات قد تبدو غير مفهومة.
محمد البقالي، صحفي مهني يمثل كبريات المؤسسات الإعلامية في العالم، مغربي الجنسية، خاض غمار هذه التجربة بصفته صحفيا، والأهم بصفته إنسانا مؤمنا بالقضية التي يناضل من أجلها.
دعونا نكون واقعيين مع أنفسنا: لا أحد يحب أن يموت، خصوصا على يد شرذمة من المحتلين الغاصبين. لكن الارتباط الوثيق بالقضية، حين تتأكد من نبلها، يدفعك إلى محاولة التحرك لفك حصار ظالم، ويكفي شرف المحاولة.
بعد عودة البقالي إلى المغرب، كشف تفاصيل صادمة لأغلبنا: كيف لشعوب غربية لا تربطها أي علاقة بأهل العزة والكرامة أن تقدم الغالي والنفيس؟ وأي شيء أغلى من الروح؟
تخيل معي عزيزي القارئ، أن تشتري سفينة من مالك الخاص وأنت تعرف أنها لن تعود، أن تقدم استقالتك من عملك في مؤسسات عالمية في سبيل رحلة مجهولة المصير. يكفي أن تعلم أنك ستقيم في سفينة شبه بالية في عرض البحر سبعة أيام بلياليها…
في معرض حديثه عن هذه الرحلة، وصف البقالي اللحظات الأخيرة بـ”الملحمية”، حسب تعبيره: في عرض البحر، وفي جوف الليل، تحيط بك سفن مجهولة مسيرات حربية، وجنود مدججون بالسلاح يداهمون سفينة سلمية في المياه الدولية. ورغم كل هذه الظروف، كان واحد وعشرون شخصا يمسكون بأذرع بعضهم البعض، يلوحون ويغنون أمام هؤلاء الجنود دون أدنى شعور بالخوف… مشهد درامي فعلا من مسلسل النضال من أجل غزة وفلسطين، ناهيك عن تلاحم هؤلاء المتطوعين داخل سجون المحتل.
رحلة حنظلة ليست مجرد رحلة عادية لمجموعة من المتطوعين بلا شغل، بل هي رحلة تحمل في تفاصيلها الصغيرة دروسا وقيما وقصصا إنسانية تُكتب بالخط العريض في كتب التاريخ. رحلة تجعلنا نعيد التفكير في أنفسنا: هل نحن فعلا قادرون على التحرك والتضحية من أجل شعب مستضعف مضطهد، ولو بأرواحنا إن اقتضى الحال؟
نحن الآن في حاجة ماسة إلى ضبط بوصلتنا الإنسانية وإعادتها إلى وجهتها الصحيحة. لن يتأتّى لنا هذا إلا من خلال المعرفة؛ المعرفة التي نخجل من جهلنا بها.
كلنا نرى هذا الدمار وهذه الإبادة وسياسة التجويع والحصار، وكل أشكال القتل والاضطهاد، لكننا اعتدنا والأصح أننا عودنا على هذه المشاهد المؤلمة حتى فقدنا أحاسيسنا. أغلبنا يردد: “ما شأني أنا بهم؟”، وأقل الإيمان أن يتساءل بعضنا: “ماذا يمكن أن أفعل لهم؟”.
يمكننا أولا وقبل كل شيء، أن نقرأ عن قضيتنا، وأن نعي تفاصيلها وقصصها وأحداثها، ثم علينا أن نؤمن بها إيمانا حقيقيا، وبأن أي فعل مهما بدا صغيرا سيكون له أثر…