الاخبار كلمة الرأي

العِلم تحت المجهر: أزمة النشر أم أزمة ضمير؟

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/glz0

إيمان بوحزامة

في الأزمنة التي يُفترض فيها أن يكون العلم آخر ما نحتمي به من فوضى المعنى، يبدو أن المأوى نفسه لم يعد آمناً. تتآكل جدرانه بصمت، وتتسلل إليه ثقوب الشك واحدة تلو الأخرى، حتى صرنا أمام منظومة معرفية تنشر الحقائق، ولكنها لم تعد دائمًا جديرة بالثقة.

النشر العلمي، الذي كان يفترض أن يكون الترجمة النزيهة للعقل في بحثه عن الحقيقة، بات اليوم متورطًا في صراعات لا علاقة لها بالعلم ولا بالمعرفة. صراعات تموّلها مصالح، وتُديرها مؤسسات، ويتغذى عليها وهم التميز الأكاديمي المرتبط بمؤشرات عددية، لا بمعايير أخلاقية أو عمق فكري. تحوّلت مجلات كثيرة إلى أدوات تصنيف، لا إلى ساحات تفكير. وأصبح الوصول إلى النشر أقرب إلى معاملة إدارية منه إلى مخاض فكري.

إن أخطر ما في هذه الأزمة، أنها لا تعلن عن نفسها بصوت مرتفع. هي ليست صدمة واضحة تُدمي الجبهة، بل تآكل بطيء في الجذور. خلل في المعايير، لا يُلاحظه غير المتورطين في تفاصيله. تزوير ناعم للمعرفة، يتم بلغة محترفة، وأحيانًا بأسماء كانت – حتى الأمس – تُوصف بالمرجعية.

في عام 2014، لم يكن أحد يتوقع أن مؤسستين علميتين بحجم Springer وIEEE ستضطران إلى سحب أكثر من 120 مقالة بحثية دفعة واحدة. بسبب اكتشاف عملية تحكيم علمي وهمية بالكامل. بعض الباحثين أنشأوا خوادم مزيفة وعناوين بريد إلكتروني بأسماء محكّمين مزعومين، ليمرّروا أبحاثًا لم تخضع لأي مراجعة حقيقية. الحدث، رغم خطورته، مرّ كخبر عابر، لكنه كان كافيًا ليرسّخ الشك في قلوب من ظنوا يومًا أن ما يُنشر هو دائمًا ما يستحق أن يُقرأ.

وفي سياق متصل، تعاظمت ظاهرة المجلات المفترسة، تلك التي لا تُخفي نواياها الربحية، وتنشر لكل من يدفع، دون أن تكلف نفسها مشقة التقييم العلمي أو الأخلاقي. تجربة شهيرة أجريت سنة 2013 كشفت المستور بوضوح: تم إرسال مقالة علمية مزيفة ومليئة بالأخطاء إلى أكثر من 300 مجلة علمية. فكانت المفاجأة أن أكثر من 150 مجلة قبلت النشر دون مراجعة حقيقية. هذه ليست نوادر عابرة، بل نماذج صارخة لانهيار المرجعيات، حيث تُعامل المعرفة كسلعة، وتُقاس جودة الفكرة ببطاقة ائتمان.

وما هو أخطر من ذلك، هو حين تدخل المصالح الاقتصادية على خط إنتاج المعرفة. ففي مراجعة نُشرت في مجلة PLoS Medicine، تبيّن أن الأبحاث الممولة من شركات الأدوية الكبرى كانت أكثر عرضة بأربع مرات لإنتاج نتائج إيجابية لصالح تلك الشركات، مقارنة بالأبحاث المستقلة. الأمر لا يتعلق هنا بمجرد تمويل، بل بتوجيه خفي للنتائج، بحجب بيانات، بتركيز على ما يخدم السوق، لا المريض. وهكذا، يُكتب “العِلم” على مقاس من يدفع، لا على مقاس من يتألم.

إننا لا نتحدث هنا عن أخطاء فردية أو سلوكيات معزولة، بل عن منظومة تبدأ من الجامعات التي تربط الترقية بعدد المقالات المنشورة، ولا تسأل كثيرًا عن جودتها، وتمر عبر مجلات تستثمر في العناوين الجاذبة لا في المحتوى الصادق، وتنتهي بجمهور لا يملك أدوات الفرز ولا وقت الشك. وهكذا، تُصبح المقالة العلمية التي تتطلب شهورًا من البحث الصادق، مساوية، في أعين النظام ، لمقالة مُفرغة إلا من العبث.

وتكمن المأساة في أن المعرفة، حين تفقد بوصلتها الأخلاقية، لا تتحوّل إلى جهل فحسب، بل إلى تزييف مقنن للواقع. وما يفاقم الألم هو أن هذا التزييف لم يعد مقتصرًا على الحقول الثانوية أو الهوامش، بل وصل إلى ميادين حيوية كالصحة والبيئة والاقتصاد. لقد صرنا نقرأ دراسات تؤثر في سياسات دول، وتُبنى عليها قرارات علاجية، وهي في جوهرها لا تصمد أمام مراجعة علمية نزيهة. فهل نُدرك فداحة ما يجري؟

ما يحدث اليوم ليس فقط أزمة ثقة بين الباحث والقارئ، بل أزمة هوية عميقة في معنى أن تكون باحثًا. هل هو من يملك قدرة التعبير بلغة علمية؟ أم من يكتب فقط ليُقيَّم؟ أم هو من يرفض أن يكون جزءًا من منظومة تنشر الرداءة وتُكافئ النفاق؟

لسنا بحاجة إلى تطهير شامل، ولا إلى جلد جماعي لمنظومة بأكملها، بل إلى وقفة أخلاقية قبل أن تكون تقنية. إلى مراجعة تعيد تعريف “العلم” لا كأداة ترقية أو سباق ترتيب، بل كوظيفة وجودية لإنقاذ الإنسان من تضليله لنفسه.

ولأننا نؤمن أن هناك من لا يزال يكتب بصدق، وينشر بإخلاص، ويبحث لا ليُكافأ بل ليُقنع، فإن الضوء لم ينطفئ بعد. لكنه خافت، هش، مهدد بأن يُخنق إذا لم نحمه.

إن المعركة الحقيقية ليست بين الباحث والمحرر، ولا بين المجلات المفتوحة وتلك المصنفة، بل بين من يرى في النشر العلمي مسؤولية أخلاقية، ومن يراه بطاقة عبور في عالم لا يُكافئ إلا من يحسن اللعب بالقواعد.

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/glz0

إيمان بوحزامة

About Author

اترك تعليقاً

اشترك معنا

    ننطلق من إيمان عميق بأن البيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي امتداد لصحتنا النفسية والجسدية،

    جريدة إلكترونية مغربية شاملة، متخصصة في قضايا الفلاحة، التنمية القروية، البيئة… وكل ما يربط الإنسان بالأرض والطبيعة من حوله.

    Gmedianews @2023. All Rights Reserved.