نحن لا نعيش في أماكن مزدحمة فقط، بل نحمل داخلنا زحامًا آخر…
ضجيج من نوع مختلف: أفكار متداخلة، توتر خفي، أسئلة مؤجلة،
وصوت داخلي لا يصمت، حتى ونحن نبدو بخير.

في علم النفس، يسمى هذا بالحمل المعرفي الزائد (Cognitive Overload)
وهو عندما يتجاوز العقل طاقته على المعالجة، فيتحوّل كل شيء بسيط إلى عبء، وكل لحظة هدوء إلى ساحة معركة داخلية.

لكن الضجيج ليس دائمًا بسبب العالم الخارجي.
كثير منه يأتي من عدم التصالح مع الداخل:
مع الماضي الذي لم يُغلق، والمستقبل الذي نخافه، والمجهول الذي لا نتحكم به.

كلما حاولنا أن نفهم ونفسّر كل شيء، زاد الضجيج.
وكلما سعينا للسيطرة على تفاصيل الحياة الصغيرة، زاد التوتر.
والحقيقة النفسية تقول: ليس كل شيء يمكن فهمه… وليس كل شعور يمكن معالجته بالعقل فقط.

وهنا، يأتي اليقين ،
اليقين بأنك لست وحدك، وأن فوقك ربّ يعلم الضجيج قبل أن تنطقه،
ويرى ألمك الذي لم تكتبه، ويحتوي خوفك الذي لا تشرحه حتى لنفسك.

في بعض الحالات، لا يُسكت الضجيج سوى إعادة ترتيب العلاقة مع الله.
لا كواجب، بل كطمأنينة:
حين يشتدّ الضجيج في الداخل، لا نحتاج دائمًا إلى مناقشة الأفكار، بل إلى لحظة صدق مع الله؛
أن نقول له سرّنا حين لا نجد من يفهمنا، وأن نُسلّمه فوضانا حين نتعب من محاولات ترتيبها.
نحتاج أن نؤمن بصدق أن ما ضاع لم يكن لنا، وما تأخر لم يُكتب بعد،
وأن ما يؤلمنا اليوم قد يكون هو نفسه ما سيبنينا غدًا.
ففي التسليم، لا نخسر السيطرة… بل نستعيد أنفسنا،
ونمنح العقل إذنًا بالراحة، والقلب فرصة للسكينة.

العقل يحتاج للفهم،لكن القلب يحتاج للطمأنينة،ولا طمأنينة حقيقية دون يقين.

في جلسات العلاج النفسي، نساعد الناس على تفكيك الضجيج،
لكننا نلاحظ أن أكثر من ينجو، ليس الأذكى… بل الأكثر تسليمًا.
الذي يقول في داخله: “فهمت ما أستطيع، والباقي أتركه لله”.
هذا وحده كفيل بأن يُهدّئ جزءًا كبيرًا من الضجيج.