مجتمع

الصحة النفسية للرجال: صمتٌ ثقيل وحاجة إلى صوت

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/ytuq

حين يصبح الصمت جدارًا

في كل مرة يُطلب من الرجل أن “يكون قويًا”، يُضاف حجر جديد إلى جدار الصمت الذي يحاصر روحه. في مجتمعاتنا، يواجه الرجال ضغطًا مضاعفًا لا يقتصر على التحديات اليومية، بل يتجاوزها إلى نظرة اجتماعية راسخة لا تسمح لهم بأن يضعفوا، أو يتعبوا، أو يتحدثوا عن ألمهم الداخلي. الصمت يصبح لغة غير معلنة، والحزن يتسلل إلى الأعماق دون أن يجد مخرجًا. ومع مرور الوقت، يتحول ذلك الصمت إلى أرق، وإلى شعور دائم بالذنب، وربما إلى اكتئاب مزمن. في شهر يونيو، شهر التوعية بالصحة النفسية للرجال، نُعيد تسليط الضوء على هذا الواقع المنسي، ونطرح السؤال الأهم: من يُنصت لصوت الرجل عندما ينهار من الداخل؟

لماذا يخصص هذا الشهر للرجال؟

الاهتمام بالصحة النفسية للرجال ليس تمييزًا، بل تصحيح لمسار طويل من التجاهل. لعقود، ارتبطت مفاهيم مثل “القوة” و”الرجولة” بالكبت العاطفي وعدم البوح، وهو ما جعل الحديث عن الألم النفسي نوعًا من العار أو الفشل. ومع تغير الزمن وتزايد الضغوط المجتمعية والاقتصادية والعائلية، وجد كثير من الرجال أنفسهم في عزلة نفسية خانقة، يواجهون أنفسهم بصمت، دون أدوات حقيقية للفهم أو الدعم. في ظل هذه الظروف، يصبح تخصيص هذا الشهر فرصة لإعادة تعريف “الرجولة” كقيمة إنسانية لا تنفصل عن الحق في التعبير، وفي المعاناة، وفي الشفاء.

أرقام تكشف عمق الأزمة

البيانات العالمية المتعلقة بالصحة النفسية للرجال تكشف عن واقع صادم يستحق التوقف. وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يُقدم رجل على الانتحار كل دقيقة تقريبًا حول العالم، مما يجعل الرجال يمثلون ثلاثة أرباع حالات الانتحار في الدول المتقدمة. في المملكة المتحدة، يُعد الانتحار السبب الأول للوفاة بين الرجال تحت سن الخامسة والأربعين. هذه الأرقام لا تعكس فقط الألم النفسي، بل تعبر عن صمتٍ قاتل ومجتمعات لم توفّر المساحات الآمنة للبوح. الدراسات أيضًا تشير إلى أن الرجال أقل طلبًا للمساعدة النفسية من النساء، وأقل مشاركة في جلسات الدعم النفسي، وهو ما يفاقم الوضع أكثر. وفي عالمنا العربي، تظل الإحصاءات أكثر ضبابية نتيجة التعتيم والوصمة، لكن الواقع لا يقل ألمًا، بل ربما يتجاوزه نظراً لقوة القيود الاجتماعية والثقافية.

المجتمع ودوره في تهميش ألم الرجل

الضغط الاجتماعي الذي يُمارس على الرجال منذ الطفولة لا يتوقف عند حد. فالطفل الذي يُمنع من البكاء بحجة “الرجولة” يصبح مراهقًا يخجل من حزنه، ورجلاً لا يثق بأن لألمه قيمة. في كثير من البيئات، يُختزل الحديث عن المشاعر في الضعف، ويُربط التعب النفسي بنقص الإيمان أو قلة الصبر. الرجل الذي يعترف أنه يُعاني يُتهم بأنه غير مسؤول، أو أنه لم يتعلم الصمود. هذه الصور النمطية المتجذرة تجعل من الصعب على الرجال كسر حاجز الصمت، ليس فقط خوفًا من الحكم، بل من فقدان مكانتهم الاجتماعية أو نظرة من يحبونهم. وهكذا، يستمر الرجل في حمل أعبائه وحده، دون أن يعرف أنه ليس وحيدًا في معاناته، بل هناك آلاف الوجوه التي تخفي نفس القلق، ونفس الوحدة، ونفس الحاجة إلى من يصغي دون أن يحكم.

أين يقف العالم العربي من كل هذا؟

في منطقتنا العربية، لا يزال الحديث عن الصحة النفسية أمرًا هامشيًا، وفيما يخص الرجال، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا. فتقاليد الرجولة تُربط غالبًا بالتحمل والصمت، والحديث عن العلاج النفسي يُنظر إليه على أنه ضعف أو “مرض عقلي” يُخجل العائلة بأكملها. الرجال الذين يعانون لا يجدون مساحات آمنة، لا في بيوتهم، ولا في أماكن عملهم، ولا حتى في المراكز الصحية التي تفتقر إلى المتخصصين المتفهمين لخصوصية الرجل العربي. في المقابل، هناك إشارات مشجعة بدأت تلوح في الأفق: شباب يتحدثون عبر المنصات الرقمية، مبادرات فردية تشجع على الحديث، وبعض الشخصيات العامة التي بدأت تفتح المجال لحوارات جديدة. ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً، إلا أن الاعتراف بوجود المشكلة هو الخطوة الأولى نحو التغيير.

نحو خطاب جديد عن الرجولة

ربما آن الأوان لإعادة صياغة مفهوم “الرجولة”. ليس من الضعف أن يعترف الرجل بحزنه، وليس من العار أن يشعر بالإرهاق أو يطلب المساعدة. القوة الحقيقية لا تعني الكبت، بل تعني الوعي بالنفس، والقدرة على مواجهتها. الرجل الذي يعالج نفسه نفسيًا هو رجل مسؤول. الذي يبكي عندما يتألم هو رجل صادق. والذي يفتح قلبه هو رجل شجاع. ولعل أقوى ما يمكن أن نفعله الآن كمجتمعات هو أن نمنح الرجل الإذن بأن يكون إنسانًا… قبل كل شيء.

الصمت ليس شجاعة، والبوح ليس ضعفًا

في شهر التوعية بالصحة النفسية للرجال، لا نُطالب بأكثر من حق الرجل في أن يُعامل ككائن يشعر، ويتألم، ويحتاج. لا نريد للرجال أن يبكوا وحدهم في الظل، ولا أن يختاروا الانتحار بدلًا من طلب العون. نريد أن نصنع ثقافة جديدة، نقول فيها للرجل: نحن هنا، نستمع إليك، نحترم صراعاتك، وندعم رحلتك نحو الشفاء. لأن الصمت قد يقتل… أما الحديث، فقد يُنقذ حياة.

The short URL of the present article is: https://gmedianews.ma/ytuq

إيمان بوحزامة

About Author

اترك تعليقاً

اشترك معنا

    ننطلق من إيمان عميق بأن البيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي امتداد لصحتنا النفسية والجسدية،

    جريدة إلكترونية مغربية شاملة، متخصصة في قضايا الفلاحة، التنمية القروية، البيئة… وكل ما يربط الإنسان بالأرض والطبيعة من حوله.

    Gmedianews @2023. All Rights Reserved.