الحروب لا تكشف فقط عن موازين القوى، بل تكشف عن موازين الأرواح.
حين تشتدّ النيران، وتتساقط القذائف، وتضيق الأرض، لا يبقى صوت يعلو فوق الحقيقة:
من الذي ينتمي؟
ومن الذي تظاهر بالانتماء؟
صحيفة هآرتس لم تروِ لنا اليوم قصة عاطفية… بل أرقامًا صارخة:
🔸 إسرائيليون وأجانب يفرّون عبر يخوت صغيرة إلى قبرص.
🔸 مئات يدفعون آلاف الدولارات للهروب من إسرائيل بحرًا.
🔸 يخوت لا تتجاوز حمولتها عشرة أشخاص… تُبحر من موانئ هرتسيليا، حيفا، وعسقلان.
في كل لحظة خطر، نجد الإسرائيلي، ذلك الذي جاء من وراء البحار، يهرع إلى المطار، أو إلى اليخت، أو إلى أي منفذ يُعيده إلى حيث أتى.
يحمل حقيبته وجواز سفره الأجنبي، لا يتردد، لا يُلقي نظرة وداع على “أرض الميعاد” التي قيل له يومًا إنها له.
لأنه ببساطة… لم يشعر بها يومًا كأنها له. لم يسمع نبضها، لم يمشِ حافيًا على ترابها، لم يتشاجر مع شجرة زيتون على حق الري، ولم يدفن أحبته تحت ظل جدارها.
كل ما كان بينه وبين الأرض… وثيقة، وسلاح، وخرافة.
حين تأتي لحظة الحقيقة… يهرب.
لأن العلاقة لم تُبنَ على حبّ، بل على وهم.
لم تُبنَ على تعب فلاح أو دمعة أم… بل على بندقية وصفقة.
وفي الجهة الأخرى… يقف الفلسطيني.
حافي القلب، مثقلًا بالحزن، يُحاصر في بيته، يُدفن تحت الأنقاض، يُودّع أبناءه واحدًا تلو الآخر… ومع ذلك، لا يغادر.
ليس لأنه لا يستطيع… بل لأنه لا يريد.
لأن الخروج من الأرض… موتٌ آخر.
موتٌ لا يُرى… لكنه أعمق من القصف، وأقسى من الفقد.
هو يدرك أن البيت قد يُهدم، والشارع قد يُمحى، لكنّ ما يسكنه… لا يُنتزع.
الفلسطيني لا يسكن الأرض… الأرض هي التي تسكنه.
هو لا يطلب الأمن… بل يطلب الحق.
لا يطلب الرحيل… بل العودة.
لا ينتظر طائرة تنقله… بل شجرة ظلًا، ومسجدًا صلاة، وقبرًا في ترابها حين تنتهي الرحلة.
هذا هو الفارق الجوهري، الوجودي، بين مستوطنٍ يبحث عن أمانٍ زائف في أرض لم يزرع فيها شيئًا… وبين إنسان ارتوى من ترابها، وكتب اسمه على حجارتها، وعاش كل لحظة فيها وكأنها الأبد.
الهاربون لا يحملون الأرض معهم.
أما الباقون… فهم الأرض.
